وسئل: ما تقول الفقهاء ء رضي الله عنهم ء في رجل يقول: إن الفقر لم نتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم ولا يُمتنى، وأنه غير سبيل موصل إلى رضا الله تعالى وإلى رضـا رسـوله ﷺ، وإنما يُتعبد بمتابعة أمر الله واجتناب نهيه من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وإن أصل كل شيء العلم والتعبد به والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، و«الفقر» المسمى على لسان الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي فيكون الزهد في الدنيا العمل بالعلم، وهذا هو الفقر، فإذا الفقر فرع من فروع العلم، والأمر على هذا. وما ثم طريق أوصل إلى العلم والعمل بالعلم، على ما صح وثبت عن النبي ﷺ.

ويقول: إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاحات المعتادة عير مرضى لله ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية ء رضي الله عنه:

الحمد لله. أصل هذه «المسألة» أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه، مثل لفظ الإيمان، والبر، والتقوى، والصدق، والعدل، والإحسان، والصبر، والشكر، والتوكل، والخوف والرجاء، والحب لله، والطاعة لله وللرسول، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن. فهذه الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله، مع ترك ما نهى الله عنه ورسوله: كالكفر، والنفاق والكذب، والإثم والعدوان، والظلم والجزع والهلع، والشرك والبخل والجبن، وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك. فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله، وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه. هذا هو طريق الله وسبيله ودينه الصراط المستقيم. صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وهذا «الصراط المستقيم» يشتمل على علم وعمل. علم شرعي، وعمل شرعي، فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرًا، ومن عمل بغير علم كان ضالًا، وقد أمرنا الله - سبحانه - أن نقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [سورة الفاتحة]. قال النبي ﷺ: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون»1. وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم.

ولهذا كان السلف يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. وكانوا يقولون: من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود؛ ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى. فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضلًا، ومن دعا إلى العمل دون العلم كان مضلًا، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع؛ فيتبع أمورًا تخالف الكتاب والسنة بظنها علومًا وهي جهالات. وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع. فيعمل أعمالًا تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات. فهذا وهذا كثير في المتحزب المنتسب إلى فقه أو فقر. يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل، والعمل دون العلم، ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة. وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل، يكون كلاهما موافقًا الشريعة.

فالسالك «طريق الفقر» والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالًا عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه. والسالك من «الفقه والعلم والنظر والكلام» إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرًا ضالًا عن الطريق. فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم.

وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو من عمل الجاهلية: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠].

ولا ريب أن لفظ «الفقر» في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين لهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك؛ بل الفقر عندهم ضد الغنى. والفقراء هم الذين ذكرهم الله في قوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: ٦٠] وفي قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧٣] وفي قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ [الحشر: ٨] والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي تجب عليه الزكاة، أو ما يشبه ذلك؛ لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعًا أو كرهًا؛ إذ من العصمة ألا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقترنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى؛ وقد يكون مع الفقر. ففي الأنبياء والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير.

«والزهد» المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع / بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع. وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو الصفا أو الصف الأول، أو صوفة بن بشر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا ؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى ؛ لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين أمرين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه.

ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وكان من القدرية كالمعتزلة ونحوهم، الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس ، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب - سبحانه - وخاصمه، كما نقل ذلك عنه. فهذا التقسيم في القول والاعتقاد.

وكذلك هم في «الأحوال، والأفعال» فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على ما يصيبه / من المقدور، فهو عند الأمر والدين والشريعة ، ويستعين بالله على ذلك ، كما قال تعالى : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات ؛ بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به ، كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد : «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني ، وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»2 فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات. ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى. ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها. كما قال بعضهم : أطعتك بفضلك ، والمنة لك. وعصيتك بعلمك ، والحجة لك. فأسألك بوجوب حجتك علي ، وانقطاع حجتي إلا غفرت لي.

وفي الحديث الصحيح الإلهي : «يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»3 وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع.

و«الزهد» قد يشهدون ؛ الأمر فقظ ؛ فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة ، ولكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب / لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر، وآخرون يشهدون القدر فقط ، فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله ، واتباع شريعته ، وملازمته ما جاء به الكتاب والسنة من الدين. فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه ، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه ، والمؤمن يعبده ويستعينه.

والقسم الرابع : شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه ، فلا هو مع الشريعة الأمرية ، ولا مع القدر الكوني. وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل المقدور من توكل واستعانة ، ونحو ذلك. وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك ، فهم في التقوى هي طاعة الأمر الديني ، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام :

أحدها : أهل التقوى والصبر ، وهم الذين أنعم الله عليهم أهل السعادة في الدنيا والآخرة.

والثاني : الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ، ويتركون المحرمات ؛ لكن إذا أصيب أحدهم / في بدنه بمرض ونحوه أو ماله أو في عرضه ، أو ابتلي بعدو يخيفه ، عظم جزعه ، وظهر هلعه.

والثالث : قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى : مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كالصوص ، والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب ، وأخذ الحرام ، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها ، وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس.

وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام ، وهؤلاء هم الذين يريدون علوًا في الأرض أو فسادًا من طلاب الرياسة ، والعلو على الخلق ، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة وغير ذلك ، يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور ، وفعلوه من المحظور ، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب : كالمرض والفقر وغير ذلك ، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر.

وأما القسم الرابع : فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا ، ولا يصبرون إذا ابتلوا ؛ بل هم كما قال الله تعالى : ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: ١٩-٢١]. فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا ، إن قهرتهم ذلوا لك ، ونافقوك ، وأحبوك واسترحموك ، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل ، وتعظيم المسؤول ، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس ، وأقساهم قلبًا ، وأقلهم رحمة وإحسانًا وعفوًا. كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد : مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ، ومن يشبههم في كثير من أمورهم ، وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق. فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم ، كان شبيهًا لهم من هذا الوجه ، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه ، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يقول في خطبه : «خير الكلام كلام الله ، و خير / الهدي هدي محمد ، و شر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة»4.

وإذا كان خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد ، فكل من كان إلى ذلك أقرب ، وهو به أشبه ، كان إلى الكمال أقرب ، وهو به أحق ، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف ، كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق. والكامل هو من كان لله أطوع ، وعلى ما يصيبه أصبر ، فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله ، وأعظم موافقة الله فيما يحبه ويرضاه ، وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل ، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك.

وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه ، وبين أنه ينصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين والمعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة ، قال الله تعالى : ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتِكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٥] وقال الله تعالى : ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أذى كثيرًا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ﴾ [آل عمران: ١٨٦]، وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَوَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ / أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: ١١٨-١٢٠] وقال إخوة يوسف له : ﴿ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: ٩٠].

وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى : ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: ١٠٩]. وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها : تصديقًا لخبر الله ، وطاعة لأمره ، وقال تعالى : ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [هود: ١١٤، ١١٥] وقال تعالى : ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ وقال تعالى : ﴿فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآء الَّيْل ﴾ [طه: ١٣٠] وقال تعالى : ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: ٤٥] وقال تعالى : ﴿ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: ١٥٣]. فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر.

/ وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلْمَرْحَمَةِ﴾ [البلد: ١٧] وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها، فإن القسمة أيضًا رباعية. إذ من الناس من يصبر ولا يرحمك كأهل القوة والفسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر: كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع، والمحمود هو الذي يصبر ويرحم؛ كما قال الفقهاء في صفة المتولي: ينبغي أن يكون قويًا من غير عنف، لينًا من غير ضعف، فيصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر ينصر العبد، فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه الله تعالى. كما قال النبي ﷺ: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»5، وقال ﷺ: «من لم يرحم لا يرحم»6، وقال ﷺ: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»7، والله أعلم ، انتهى.



1 الترمذي في تفسير القرآن (٢٩٥٣، ٢٩٥٤) وقال: «حسن غريب»، وأحمد ٤/٣٧٨، وابن حبان في الموارد (١٧١٥).

2البخارى في الدعوات (٦٣٢٣).

3 مسلم في البر والصلة (٥٥/٢٥٧٧).

4مسلم في الجمعة (٤٥٬٤٣/٨٦٧)، وابن ماجه في المقدمة (٤٥)، كلاهما عن جابر بن عبد الله.

5 البخاري في الجنائز (١٢٨٤)، ومسلم في الجنائز (٩٤٣/١١)

6البخارى في الأدب (٥٩٩٧)، ومسلم في الفضائل (٦٥/٢٣١٨)

7 أبو داود في الأدب (٤٩٤١، ٤٩٤٢)، والترمذي في البر (١٩٢٣، ١٩٢٤)

مسألة في الفقر والتصوف