الأمر بالعدالة ، لا ينافي الأمر بالقتال

… قينقاع، والنضير، وقريظة، ولا ضربها على أهل خيبر، فإنها فتحت سنة سبع قبل نزول آية الجزية، وأقرهم فلاحين وهادنهم هدنة مطلقة قال فيها: « نقركم ما أقركم الله » فإذا كان أول ما أخذها من وفد نجران علم أن قدومهم عليه، ومناظرته لهم، ومحاجته إياهم، وطلبه المباهلة معهم، كانت بعد آية السيف التي فيها قتالهم، وعلم بذلك أن ما ذكره الله تعالى من مجادلة أهل الكتاب بالتى هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم محكم لم ينسخه شيء، وكذلك ما ذكره تعالى من مجادلة الخلق مطلقاً بقوله: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ ، [ سورة النحل: ١٢٥ ] . فإن من الناس من يقول : آيات المجادلة والمحاجة للكفار ، منسوخات بآية السيف ؛ لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة وهذا غلط ، فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضاً للحكم المنسوخ كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام ، ومناقضة الأمر بصيام رمضان للمقيم للتخيير بين الصيام وبين إطعام كل يوم مسكيناً ، ومناقضة نهيه عن تعدى الحدود التي فرضها الورثة للأمر بالوصية للوالدين والأقربين ، ومناقضة قوله لهم : كفوا أيديكم عن القتال لقوله قاتلوهم ، كما قال تعالى : ﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ﴾ ، [ سورة النساء: ٧٧ ] . فأمره لهم بالقتال ناسخ لأمره لهم بكف أيديهم عنهم ، فأما قوله تعالى : ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ سورة النحل: ١٢٥ ] . وقوله : ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ [ سورة العنكبوت: ٤٦ ] . فهذا لا يناقضه الأمر بجهاد منهم ، ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة.


فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به ، والقتال المأمور به ، فلا منافاة بينهما وإذا لم يتنافيا بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ ، ومعلوم أن كلا منهما يقع حيث لا ينفع الآخر ، وأن استعمالهما جميعاً أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق ، ومما يبين ذلك وجوه:


أحدها: أن من كان من أهل الذمة والعهد والمستأمن منهم لا يجاهد بالقتال ، فهو داخل فيمن أمر الله بدعوته ومجادلته بالتي هي أحسن ، وليس هو داخلاً فيمن أمر الله بقتاله.


الثاني : أنه قال : ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [ سورة العنكبوت: ٤٦ ] . فالظالم لم يؤمر بجداله بالتي هي أحسن ، فمن كان ظالماً مستحقاً للقتال غير طالب للعلم والدين ، فهو من هؤلاء الظالمين الذين لا يجادلون بالتي هي أحسن ، بخلاف من طلب العلم والدين ولم يظهر منه ظلم ، سواء كان قصده الاسترشاد أو كان يظن أنه على حق يقصد نصر ما يظنه حقاً ، ومن كان قصده العناد يعلم أنه على باطل ويجادل عليه ، فهذا لم يؤمر بمجادلته بالتي هي أحسن ، لكن قد نجادله بطرق أخرى نبين فيها عناده وظلمه وجهله جزاء له بموجب عمله .


الثالث : أنه سبحانه وتعالى قال : ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ ، [ سورة التوبة: ٦ ] . فهذا مستجير مستأمن وهو من أهل الحرب أمره الله بإجارته حتى تقوم حجة الله عليه ، ثم يبلغه مأمنه وهذا في سورة براءة التي فيها نقض العهود وفيها آية السيف ، وذكر هذه الآية في ضمن الأمر بنقض العهود ؛ ليبين سبحانه أن مثل هذا يجب أمانه حتى تقوم عليه الحجة ، لا تجوز محاربته كمحاربة من لم يطلب أن يبلغ حجة الله عليه .


قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ثم «أبلغه مأمنه» إن لم يوافقه ما نقص عليه ونخبر به فأبلغه مأمنه قال : وليس هذا بمنسوخ ، وقال مجاهد: من جاءك واستمع ما تقول واستمع ما أنزل إليك فهو آمن حتى يأتيك ، وقال عطاء في الرجل من أهل الشرك يأتي المسلمين بغير عهد قال : خيره إما أن تقره ، وإما أن تبلغه مأمنه.


وقوله تعالى: ﴿ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ﴾ ، [ سورة التوبة: ٦ ] . قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعاً يتمكن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ما تقوم به عليه الحجة ، ولو كان عربياً وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست من لغته ، وجب أن يبين له معناها ، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه ، فعلينا ذلك . وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن ؛ فإنه كان يجيبهم عنه كما أجاب ابن الزبيري لما قاس المسيح على آلهة المشركين وظن أن العلة في الأصل بمجرد كونهم معبودين ، وأن ذلك يقتضي أن كل معبود غير الله فإنه يعذب في الآخرة ، فجعل المسيح مثالاً لآلهة المشركين قاسهم عليه قياس الفرع على الأصل.


قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ﴾ ، [ سورة الزخرف: ٥٧، ٥٨ ] . فبين سبحانه الفرق المانع من الإلحاق بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [ سورة الأنبياء: ١٠١ ] . وبين أن هؤلاء القائسين ما قاسوا إلا جدلا محضاً لا يوجب علماً ؛ لأن الفرق حاصل بين الفرع والأصل ، فإن الأصنام إذا جعلوا حسباً لجهنم ، كان ذلك إهانة وخزيا لعابديها من غير تعذيب من لا يستحق التعذيب ، بخلاف ما إذا عذب عباد الله الصالحون بذنب غيرهم ، فإن هذا لا يفعله الله تعالى ، لا سيما عند جماهير المسلمين وسائر أهل الملل - سلفهم وخلفهم - الذين يقولون : إن الله لا يخلق و يأمر إلا بلحكمة و لا يظلم أحدًا فينقصه شيئًا من حسناته ، ولا يحمل عليه سيئات غيره ، بل ولا يعذب أحدًا إلا بعد إرسال رسول إليه ، كما قال تعالى : ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا﴾ ، [ سورة طه : ١١٢ ] . وقال تعالى : ﴿وَ مَن يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا﴾ ، [ سورة الجن : ١٣ ] . وقال تعالى : ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ؟﴾ ، [ سورة النمل : ٩٠ ] . وقال تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا

معذبين حتى نبعث رسولا ، [ سورة الإسراء : ١٥ ] .


و من قال من المسلمين وغيرهم من أهل الملل . إنه يجوز منه تعالى فعل كل شيء ، و أن الظلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة . و هؤلاء يقولون : إنما يعلم ما يفعله و ما لا يفعله بدلالة الخبر الصادق أو بالعادة و إن كان الجمهور يستدلون بالخبر الصادق و بغيره على ما يمتنع من الله ، وقد أخبر الله تعالى أن عباده الصالحين في الجنة لا يعذبهم في النار ، بل يتقبل عنهم أحسن ما عملوا و يتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة فضلا أن يعاقبهم بذنب غيرهم مع كراهته لفعلهم و نهيهم عن ذلك ، و من زعم أن لفظ «ما» كانت تتناول المسيح و أخر بيان العام ، أو أجاب بأن لفظ «ما» لا يتناول إلا ما لا يعقل بالقولان ضعيفان ، كما قد بسط في موضعه و إنما المشركون عارضوا النص الصحيح بقياس فاسد ، فبين الله تعالى فساد القياس و ذكر الفرق بين الأصل والفرع ، و كذلك لما أورد بعض النصارى على قوله تعالى : ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ [ سورة مريم : ٣٨ ] ظنا منه أن هارون هذا : هو هارون أخو موسى بن عمران ، وأن عمران هذا : هو عمران أبو مريم أم المسيح ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك . أجاب : بأن هارون هذا ليس هو ذاك ، ولكنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء و الصالحين . و بعض جهال النصارى يقدح في القرآن بمثل هذا ولا يعلم هذا المفرط في جهله أن آحاد الناس يعلمون أن بين موسى وعيسى مدة طويلة جدًّا يمتنع معها أن يكون موسى وهارون خالي المسيح ، و أن هذا مما لا يخفى على أقل أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فضلًا عن أن يخفى على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا السؤال مما أورده أهل نجران ، كما ثبت عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران فقالوا : ألستم تقرءون «يا أخت هارون» ، وقد علمتم ما بين موسى وعيسى؟ فلم أدر ما أجيبهم ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم و الصالحين قبلهم ؟» .


و هذا السؤال الذي هو سؤال الطاعن في القرآن لما أورده أهل نجران الكفار عمر المغيرة رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يجبهم عنه أجاب عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، و لم يقل لهم . ليس لكم عندي إلا السيف ، و لا قال . قد نقضتم العهد إن كانوا قد عاهدوه ، و قد عرف أن أهل نجران لم يرسل إليهم رسولا إلا و الجهاد مأمور به ، و كان المسلمون يوردون الأسئلة عليه كما أورد عليه عمر عام الحديبية لما صالح المشركين و لم يدخل مكة فقال له : ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت و نطوف به ؟ قال : بلى ، أقلت لك إنك تأتيه في هذا العام ؟ قال : لا . قال : فإنك آتيه و مطوف به ، و كذلك أجابه أبو بكر و لم يكن سمع جواب النبي صلى الله عليه و سلم له . و معلوم أنه ليس في ظاهر اللفظ توقيت ذلك بعام ؛ و لكن السائل ظن ما لا يدل اللفظ عليه ؛ و كذلك لما قال «من نوقش الحساب عذب» قالت له عائشة : ألم يقل الله : ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ ، [ سورة الانشقاق : ٧ ، ٨ ] . فقال ذلك العرض و من نوقش الحساب عذب ، ومعلوم أن الحساب اليسير لا يتناول من نوقش ؛ وقد زادها بياناً ، فأخبرها أنه العرض لا المقابلة المتضمنة للمناقشة و كذلك لما قال : إنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ، قالت له حفصة ألم يقل الله : ﴿وَ إِن مِنكُم إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ ، [ سورة مريم : ٧١ ] . فأجابها بأنه قال : ﴿ثُمَّ نُنجِي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ ، [ سورة مريم : ٧٢ ] .


فبين صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء هم الذين يدخلون جهنم ، و هذا الدخول هو الذي نفاه عن أهل الحديبية ، وأما الورود : فهو مرور الناس على الصراط كما فسره في الحديث الصحيح حديث جابر بن عبد الله ، وهذا المرور لا يطلق عليه اسم الدخول الذي تجزى به العصاة و ينفي عن المتقين ومثل هذا كثير .


و أما ما في القرآن من ذكر أقوال الكفار وحججهم وجوابها ، فهذا كثير جدًّا ، فإنه يجادلهم تارة في التوحيد ، وتارة في النبوات ، وتارة في المعاد ، وتارة في الشرائع بأحسن الحجج و أكملها ، كما قال تعالى : ﴿وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لتثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا ، [ سورة الفرقان : ٣٢ ، ٣٣ ] .

وقد أخبر الله تبارك و تعالى عن أولي العزم من الرسل بمجادلة الكفار ، فقال تعالى عن قوم نوح ، ﴿فَقَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ ، [ سورة هود : ٣٢ ] وقال عن الخليل : ﴿وَ حَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقد هدان - إلى قوله - وَ تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ﴾ [ سورة الأنعام ٨٠ - ٨٣ ]

و أمر تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بالمجادلة بالتي هي أحسن ، و ذم سبحانه من جادل بغير علم أو في الحق بعد ما تبين ومن جادل بالباطل ، فقال تعالى : ﴿ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون؟﴾ ، [ سورة آل عمران : ٦٦ ] . وقال تعالى : ﴿وَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾ ، [ سورة الأنفال : ٦ ] . وقال تعالى : ﴿وَ جَادَلُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ ، [ سورة غافر : ٥ ] . وهذا هو الجدال المذكور في قوله : ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ . [ سورة غافر : ٤ ].


و إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحاج الكفار بعد نزول الأمر بالقتال ، وقد أمره الله تعالى أن يجير المستجير حتى يسمع كلام الله ثم يبلغه مأمنه ، والمراد بذلك تبليغه رسالات الله و إقامة الحجة عليه ، و ذلك قد لا يتم إلا بتفسيره له الذي تقوم به الحجة و يجاب به عن المعارضة ، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، علم بطلان قول من ظن أن الأمر بالجهاد ناسخ للأمر بالمجادلة مطلقاً .


الوجه الرابع : إن القائل إذا قال : إن آية مجادلة الكفار أو غيرها مما يدعى نسخه منسوخة بآية السيف قيل له : ما تعني بآية السيف ؟ أتعني آية بعينها أم تعني كل آية فيها الأمر بالجهاد ؟


فإن أراد الأول ، كان جوابه من وجهين :


أحدهما : أن الآيات التي فيها ذكر الجهاد متعددة ، فلا يحوز تخصيص بعضها . وإن قال : أريد قوله تعالى : ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ ، [ سورة التوبة : ٥ ] .


قيل له : هذه في قتال المشركين ، و قد قال بعدها في قتال أهل الكتاب : ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ ضاغرون ﴾ ، [ سورة التوبة ، ٢٩ ] .


فلو لم تكن آية السيف إلا واحدة لم تكن هذه أولى من هذه .


وإن قال : كل آية فيها ذكر الجهاد . قيل له : الجهاد شرع على مراتب ، فأول ما أنزل الله تعالى فيه الإذن فيه بقوله : ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ، وَ إِنَّ اللَّهَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ ، [ سورة الحج : ٣٩ ] .


فقد : كثر غير واحد من العلماء أن هذه أول آية نزلت في الجهاد ، ثم بعد ذلك نزل وجوبه بقوله : ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ ، [ سورة البقرة ، ٢١٦ ] .


ولم يؤمروا بقتال من طلب مسالمتهم بل قال : ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ، وَ لاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ، أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ، وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ، فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ ، [ سورة النساء : ٨٩ ، ٩٠ ] .


و كذلك من هادنهم لم يكونوا مأمورين بقتاله ، و إن كانت الهدنة عقدًا جائزًا غير لازم ، ثم أنزل الله في « براءة » الأمر بنبذ العهود ، و أمرهم بقتال المشركين كافة ، و أمرهم بقتال أهل الكتاب إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون ، و لم يبح لهم ترك قتالهم و إن سالموهم و هادنوهم هدنة مطلقة مع إمكان جهادهم .


فإن قيل : آية السيف التي نسخت المجادلة هي آية الإذن .

قيل . فآية الإذن نزلت في أول مقدمه المدينة قبل أن يبعث شيئًا من السرايا ، و قد جادل بعد هذا الكفار .

وكذلك إن قيل . آيات فرض القتال ، قيل كقوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالِ﴾ ، [ سورة البقرة ، ٢١٦ ] . نزلت في البقرة أول الأمر قبل بدر . وقيل . لا ريب أن الجهاد كان واجبا يوم أحد و الخندق و فتح خيبر ومكة . و قد ذكر الله آيات فرض الجهاد في هؤلاء الغازي ، كما ذكر ذلك في سورة آل عمران والأحزاب ، فإن قيل بل الجدال إنما نسخ لما أمر بجهاد من سالم و من لم يسالم .


قيل : هذا باطل ، فإن الجدال إن كان منافياً للجهاد ، فهو مناف لإباحته و لإيجابه ولو للمسالم ، وإن لم يناف الجهاد لم يناف إيجاب الجهاد للمسالمين ، كما لم يناف إيجاب جهاد غيرهم .


فإن المسالم قد لا يجادل و لا يجالد ، و قد يجادل ولا يجالد ، كما أن غيره قد يجادل و يجالد و قد يفعل أحدهما ، فإذا كان إيجابه لجهاد المحارب المبتدىء بالقتال لا ينافي مجادلته ، فلأن يكون جهاد من لا يبدأ بالقتال لا ينافي مجادلته أولى و أخرى ، فإن من كان أبعد عن القتال كانت مجادلته أقل منافاة للقتال من يكون أعظم قتالاً . يبين هذا .


الوجه الخامس : هو أن يقال المنسوخ (1)صار على الجدال ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأموراً أن يجالد الكفار بلسانه بيده ، فيدعوهم و يعظهم و يجادلهم بالتي هي أحسن ، و يجاهد(2) بالقرآن جهاداً كبيراً قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية : ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ ، ( سورة الفرقان : ٥١ ، ٥٢ ) . وكان مأمورا بالكف عن قتالهم لعجزه و عجز المسلمين عن ذلك ، ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أذن له في الجهاد ، ثم لما قووا كتب عليهم القتال و لم يكتب عليهم قتال من سالهم ؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار ، فلما فتح الله مكة و انقطع قتال قريش ملوك العرب ، و و فدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت ، وأمره بنبذ العهود المطلقة ، فكان الذي رفعه و نسخه ترك القتال .


وأما مجاهدة الكفار باللسان ، فما زال مشروعًا من أول الأمر إلى آخره ، فإنه إذا شرع جهادهم باليد ، فباللسان أولى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم و أموالكم » وكان ينصب لحسان منبراً في مسجده يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو ، و هذا كان بعد نزول آيات القتال ، و أين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل و البراهين على صحة الإسلام و إبطال حجج الكفار من المشركين وأهل الكتاب ؟

الوجه السادس : إنه من المسلم أن القتال إنما شرع للضرورة ، و لو أن الناس آمنوا بالبرهان و الآيات لما احتاج إلى القتال ، فبيان آيات الإسلام و براهينه واجب مطلقًا وجوباً أصلياً .


وأما الجهاد : فمشروع للضرورة ، فكيف يكون هذا مانعاً من ذلك ؟

فإن قيل : الإسلام قد ظهرت أعلامه وآياته فلم تبق حاجة إلى إظهار آياته، و إنما يحتاج إلى السيف .


قيل : معلوم أن الله وعد بإظهاره على الدين كله ظهور علم وبيان وظهور سيف وسنان ، فقال تعالى : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ ، [ سورة الصف : ٩ ] .


وقد فسر العلماء ظهوره بهذا وهذا . ولفظ الظهور يتناولهما فإن ظهور الهدى بالعلم والبيان وظهور الدين باليد والعمل ، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ومعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره باليد والقتال ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بمكة ثلاث عشرة سنة، يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين ، فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعاً واختيارا بغير سيف ، لما بان لهم من الآيات البينات ، والبراهين والمعجزات ، ثم أظهره بالسيف فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعاً ، فلا يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداء ودفعاً لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأخرى .


فإن وجوب هذا قبل وجوب ذاك ومنفعته قبل منفعته ، ومعلوم أنه يحتاج كل وقت إلى السيف ، فكذلك هو يحتاج إلى العلم والبيان و إظهاره بالعلم والبيان من جنس إظهاره بالسيف وهو ظهور مُجْمَلٌ عَلَيْهِ3 على كل دين ، مع أن كثيرا من الكفار لم يقهره سيفه ، فكذلك كثير من الناس لم يظهر لهم آياته وبراهينه، بل قد يقدحون فيه و يقيمون حججهم على بطلانه ، و لا سيما والمقهورون بالسيف فيهم منافقون كثيرون ، فهؤلاء جهادهم بالعلم والبيان دون السيف والسنان يؤكد هذا.

الوجه السابع : و هو أن القتال لا يكون إلا لظالم ، فإن من قاتل المسلمين لم يكن إلا ظالماً متعدياً ، ومن قامت عليه الحجة فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و اتبع غير سبيل المؤمنين لم يكن إلا ظالماً .


وأما المجادلة فقد تكون لظالم ، إما طاعن في الدين بالظلم ، و إما من قامت عايه الحجة الظاهرة فامتنع من قبولها ، و قد تكون لمسترشد طالب حق لم يبلغه، أما من بلغه بعض أعلام نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ودلائل نبوته ؟ و لكن عورض ذلك عنده بشبهات تنافي ذلك ، فاحتاج إلى جواب تلك المعارضات ، وأما طالب لمعرفة دلائل النبوة على الوجه الذي يعلم به ذلك ، فإذا كان القتال


الذي لا يكون إلا لدفع ظلم المقاتل مشروعاً ، فالمجادلة التي تكون لدفع ظلمه و لا تنفاعه و امتناع غيره مشروعة بطريق الأولى . قال مجاهد : ﴿ و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ﴾ .


قال : الذين ظلموا : من قاتلك و لم يعطك الجزية ، و في لفظ آخر عنه قال : الذين ظلموا : منهم أهل الحرب من لا عهدهم المجادلة لهم بالسيف .

وفي رواية عنه قال : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم ولم يعط الجزية .


وفي رواية عنه قال : من أدى منهم الجزية فلا تقولوا لهم إلا خيراً ، وعن مجاهد : إلا بالتي هي أحسن ، فإن قالوا : شراً فقولوا : خيراً ، فهذا مجاهد لا يجعلها منسوخة وهو قول أكثر المفسرين .


قال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم : ﴿ و لو تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ﴾. ليست منسوخة، ولسكن عن قتادة قال : نسختها : ﴿اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ و لا مجادلة أشد من السيف ، و الأول أصح ؛ لأن هؤلاء من الذين ظلموا فلا نسخ ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناء على ظهور دلائل النبوة نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذين يعتمد في أصول الدين على نظرهم ومناظرتهم ، و يزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة قد أوردوا من الشبهات والشكوك و المطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالاً ، و أجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جواباً في المسائل الظنية ، بل هي إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين ، و هم كما مثلهم الغزالي وغيره بمن يضرب شجرة ضرباً يزلزلها به ، و هو يزعم أنه يريد أن يثبتها ، وكثير من أئمة هؤلاء مضطرب في الإيمان بالنبوة اضطراباً ليس هذا موضع بسطه ، وهم مع ذلك يدعون أنه قد ظهر عند أهل الكتاب ما لم يظهر عند شيوخ هؤلاء النظار وينهون عن إظهار آيات الله و براهينه التي هي غاية مطالب مشايخهم و لم يمطوها حقها ، إما عجزاً و إما تفريطاً .


الوجه الثامن : أن كثيراً من أهل الكتاب يزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم و أمته إنما أقاموا دينهم بالسيف لا بالهدى والعلم والآيات ، فإذا طلبوا العلم والمناظرة فقيل لهم : ليس لكم جواب إلا السيف ، كان هذا مما يقرر ظنهم الكاذب ، و كان هذا من أعظم ما يحتجون به عند أنفسهم على فساد الإسلام ، و أنه ليس دين رسول من عند الله ، و إنما هو دين ملك أقامه بالسيف .


الوجه التاسع : إنه من المعلوم أن السيف لا سيما سيف المسلمين وأهل الكتاب هو تابع للعلم و الحجة ، بل و سيف المشركين هو تابع لآرائهم واعتقادهم، والسيف من جنس العمل ، و العمل أبدا تابع للعلم و الرأى .


و حينئذ فبيان دين الإسلام بالعلم و بيان أن ما خالفه ضلال و جهل هو تثبيت لأصل دين الإسلام ، واجتناب لأصل غيره من الأديان التي يقاتل عليها أهلها ، ومتى ظهرت صحته و فساد غيره كان الناس أحد رجلين :


إما رجل تبين له الحق فاتبعه ، فهذا هو المقصود الأعظم من إرسال الرسل.


و إما رجل لم يتبعه ، فهذا رجل قامت عليه الحجة ؛ إما لكونه لم ينظر في أعلام الإسلام ، أو نظر وعلم فاتبع هواه أو قصر ، و إذا قامت عليه الحجة كان أرضى الله و لرسوله وأنصر لسيف الإسلام وأذل لسيف الكفار ، و إذا قدر أن فيهم من يعجز عن فهم الحجة ، فهذا إذا لم يكن معذوراً مع عدم قيامها فهو مع قيامها أولى أن لا يعذر ، و إن كان معذوراً مع قيامها فهو مع عدمها أعذر ، فعلى التقديرين قيام الحجة أنصر و أعذر ، و قد قال تعالى : ﴿ و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ﴾ ، [ سورة الإسراء : ١٥ ] . قال تعالى : ﴿ رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ ، [ سورة النساء : ١٦٥ ] . وقال تعالى : ﴿ فالملقيات ذكرا عذراً أو نذراً ﴾ ، [ سورة المرسلات : ٦،٥ ] .


وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين و منذرين ».

1هذا الجزء غير واضح في النسخة الأصلي

2هذا الجزء غير واضح في النسخة الأصلي

3 كما ورد في النص العربي: مجمل علا به