بسم الله الرحمن الرحميم


باب الفرائض


قال أبو بكر قد كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين أحدهما النسب والآخر السبب فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغار ولا الإناث وإنما يورثون من قاتل على الفرس وحاز الغنيمة روى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين منهم إلى أن أنزل الله تعالى ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن إلى قوله تعالى والمستضعفين من الولدان وأنزل الله تعالى قوله يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي ص - على ما كانوا عليه في الجاهلية في المناكحات والطلاق والميراث إلى أن نقلوا عنه إلى غيره بالشريعة .
قال ابن جريج قلت لعطاء أبلغك أن رسول الله ص - أقر الناس على ما أدركهم ص - من طلاق أو نكاح أو ميراث قال لم يبلغنا إلا ذلك وروى حماد بن زيد عن ابن عون عن ابن سيرين قال توارث المهاجرين والأنصار بنسبهم الذي كان في الجاهلية وقال ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال ما كان من نكاح أو طلاق في الجاهلية فإن رسول الله ص - أقره على ذلك إلا الربا فما أدرك الإسلام من ربا لم يقبض رد البائع رأس ماله وطرح الربا .
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير فإن بعث الله تعالى محمدا ص - والناس على أمر جاهليتهم إلى أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه والإ فهم ما كانوا عليه من أمر جاهليتهم وهو على ما روي عن ابن عباس أنه قال الحلال ما أحل الله تعالى والحرام ما حرم الله تعالى وما سكت عنه فهو عفو فقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي ص - فيما لا يحظره العقل على ما كانوا عليه وقد كانت العرب متمسكة ببعض شرائع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقد كانوا أحدثوا أشياء منها ما يحظره العقل نحو الشرك وعبادة الأوثان ودفن البنات وكثير من الأشياء المقبحة في العقول وقد كانوا على أشياء من مكارم الأخلاق وكثير من المعاملات التي لا تحظرها العقول فبعث الله نبيه ص - داعيا إلى توحيد وترك ما تحظره العقول من عبادة الأوثان ودفن البنات والسائبة والوصيلة والحامي وما كانوا يتقربون به إلى أوثانهم وتركهم فيما لم يكن العقل يحظره من المعاملات وعقود البياعات والمناكحات والطلاق والمواريث على ما كانوا عليه فكان ذلك جائزا منهم إذ ليس في العقل حظره ولم تقم حجة السمع عليهم بتحريمه فكان أمر مواريثهم على ما كانوا عليه من توريث الذكور المقاتلة منهم دون الصغار ودون الإناث إلى أن أنزل الله تعالى آي المواريث وكان السبب الذي يتوارثون به شيئين أحدهما الحلف والمعاقدة والآخر التبني ثم جاء الإسلام فتركوا برهة من الدهر على ما كانوا عليه ثم نسخ فمن الناس من يقول إنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة بنص التنزيل ثم نسخ وقال شيبان عن قتادة في قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك قال فورثوا السدس في الإسلام من جميع الأموال ثم يأخذ أهل الميراث ميراثهم ثم نسخ بعد ذلك فقال الله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وروى الحسن بن عطية عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم كان الرجل في الجاهلية يحلف له الرجل فيكون تابعا له فإذا مات صار الميراث لأهله وأقاربه وبقي تابعه ليس له شيء فأنزل الله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكان يعطى من ميراثه وقال عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وذلك أن الرجل في الجاهلية وفي الإسلام كان يرغب في خلة الرجل فيعاقده فيقول ترثني وأرثك وأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت فلما نزلت هذه الآية في قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد جاء رجل إلى رسول الله ص - فقال يا نبي الله نزلت قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد وقد كنت عاقدت رجلا فمات فنزلت والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا فأخبر هؤلاء السلف ميراث الحليف قد كان حكمه ثابتا في الإسلام من طريق السمع لا من جهة إقرارهم على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية وقال بعضهم لم يكن ذلك ثابتا بالسمع من طريق الشرع وإنما كانوا مقرين على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية إلى أن نزلت آية المواريث فأزالت ذلك الحكم حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عببيد قال حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان حلفاء في الجاهلية فأمروا أن يعطوهم نصيبهم من المشورة والعقل والنصر ولا ميراث لهم قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا معاذ عن ابن عون عن عيسى بن الحارث عن عبدالله بن الزبير في قوله تعالى واولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض قال نزلت هذه الآية في العصبات كان الرجل يعاقد الرجل يقول ترثني وأرثك فنزلت وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن إبراهيم عن علي بن طلحة عن ابن عباس والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل يقول ترثني وأرثك فنسختها وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا قال إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوهم وصية فذكر هؤلاء أن ما كان من ذلك في الجاهلية نسخ بقوله تعالى وأولوا الأرحام وأن قوله تعالى فآتوهم نصيبهم إنما أريد به الوصية أو المشورة والنصر من غير ميراث وأولي الأشياء بمعنى الآية تثبيت التوارث بالحلف لأن قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم يقتضي نصيبا ثابتا لهم والعقل والمشورة والوصية ليست بنصيب ثابت وهو مثل قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب المفهوم من ظاهره إثبات نصيب من الميراث كذلك قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قد اقتضى ظاهره إثبات نصيب لهم قد استحقوه بالمعاقدة والمشورة يستوي فيها سائر الناس فليست إذا بنصيب فالعقل إنما يجب على حلفائه وليس هو بنصيب له والوصية إن لم تكن مستحقة واجبة فليست بنصيب فتأويل الآية على النصيب المسمى له في عقد المحالفة أولى وأشبه بمفهوم الخطاب مما قال الآخرون وهذا عندنا ليس بمنسوخ وإنما حدث وارث آخر هو أولى منهم كحدوث ابن لمن له أخ لم يخرج الأخ من أن يكون من أهل الميراث إلا أن الإبن أولى منه وكذلك أولوا الأرحام أولى من الحليف فإذا لم يكن رحم ولا عصبة فالميراث لمن حالفه وجعله له وكذلك أجاز أصحابنا الوصية بجميع المال لمن لا وارث له .
وأما الميراث بالدعوة والتبني فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه وقد كان ذلك حكما ثابتا في الإسلام وقد كان النبي ص - تبنى زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزل الله تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقال تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم وقال تعالى أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وقد كان أبو حذيفة بن عتبة تبنى سالما فكان يقال له سالم بن أبي حذيفة إلى أن أنزل الله تعالى إدعوهم لآبائهم رواه الزهري عن عروة عن عائشة فنسخ الله تعالى الدعوة بالتبني ونسخ ميراثه حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن ليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني سعيد بن المسيب في قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال ابن المسيب إنما أنزل الله تعالى ذلك في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة وأبى الله أن يجعل للمدعين ميراثا ممن ادعاهم ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية فكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي رد عليه أمرهم قال أبو بكر وجائز أن يكون المراد بقوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم منتظما للحلف والتبني جميعا إذ كل واحد منهما يثبت بالعقد فهذا الذي ذكرنا كان من مواريث الجاهلية وبقي في الإسلام بعضها بالإقرار عليه إلى أن نقلوا عنه وبعضه بنص ورد في إثباته إلى أن ورد ما أوجب نقله .
وأما مواريث الإسلام فإنها معقودة بشيئين أحدهما نسب والآخر سبب ليس بنسب فأما المستحق بالنسب فما نص الله تعالى عليه من كتابه وبين رسوله ص - بعضه وأجمعت الأمة على بعضه وقامت الدلالة على بعض وأما السبب الذي ورث به في الإسلام فبعضه ثابت وبعضه منسوخ الحكم فمن الأسباب التي ورث بها في الإسلام ما ذكرنا في عقد المحالفة وميراث الأدعياء وقد ذكرنا حكمه ونسخ ما روي نسخه وإن ذلك عندنا ليس بنسخ وإنما جعل وارث أولى من وارث .
وكان من الأسباب التي أوجب الله تعالى به الميراث الهجرة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قال كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابي المهاجر فنسختها وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وقال بعضهم نسخها قوله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون وكانوا يتوارثون بالأخوة التي آخى بها رسول الله ص - بينهم وروى هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله ص - آخى بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك فارتث كعب يوم أحد فجاء به الزبير يقوده بزمام راحلته ولو مات كعب عن الضح والريح لورثه الزبير حتى أنزل الله تعالى اولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم وروى ابن جريج عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فإن كان المهاجرون والأنصار يرث الرجل الرجل الذي آخى بينه وبينه رسول الله ص - دون أخيه فلما نزلت هذه الآية ولكل جعلنا مولى مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ثم قال تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة فذكر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم أريد به معاقدة الأخوة التي آخى بها رسول الله ص - بينهم وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى مالكم من ولايتهم من شيء أن المسلمين كانوا يتوارثون بالهجرة والإسلام فكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه فنسخ الله تعالى ذلك بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين وروى جعفر بن سليمان عن الحسن قال كان الأعربي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا وإن كان ذا قربى ليحثهم بذلك على الهجرة فلما كثر المسلمون أنزل الله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فنسخت هذه الآية تلك إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا فرخص الله للمسلم أن يوصي لقرابته من اليهود والنصارى والمجوس من الثلث وما دونه كان ذلك في الكتاب مسطورا قال مكتوبا فجملة ما حصل عليه التوارث بالأسباب في أول الإسلام التبني والحلف والهجرة والمؤاخاة التي آخى بها رسول الله ص - ثم نسخ الميراث بالتبني والهجرة والمؤاخاة وأما الحلف فقد بينا أنه جعلت القرابة أولى منه ولم ينسخ إذا لم تكن قرابة وجائز أن يجعل له جميع ماله أو بعضه ومن الأسباب التي عقد بها التوارث في الإسلام ولاء العتاقة والزوجية وولاء الموالاة وهو عندنا يجري مجرى الحلف وإنما يثبت حكمه إذا لم يكن وارث من ذي رحم أو عصبة فجميع ما انعقدت عليه مواريث الإسلام السبب والنسب والسبب كان على أنحاء مختلفة منها المعاقدة بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بينهم رسول الله ص - والهجرة والزوجية وولاء العتاقة وولاء الموالاة فأما إيجاب الميراث بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بيينهم رسول الله ص - بها فمنسوخ مع وجود العصبات وذوي الأرحام وولاء العتاقة والموالاة والزوجية هي أسباب ثابتة يستحق بها الميراث على الترتيب المشروط لذلك وأما النسب الذي يستحق به الميراث فينقسم إلى أنحاء ثلاثة ذوو السهام والعصبات وذوو الأرحام وسنبين ذلك في موضعه فأما الآيات الموجبة لميراث ذوي الأنساب من ذوي السهام والعصبات وذوي الأرحام فقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللآتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان نسخ بهما في رواية عن ابن عباس وغيره من السلف ما كان عليه الأمر في توريث الرجال المقاتلة دون الذكور الصغار والإناث وقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم فيه بيان للنصيب المفروض في قوله تعالى للرجال نصيب إلى قوله تعالى نصيبا مفروضا والنصيب المفروض هو الذي بين مقداره في قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين فقال قد نسخ هذا قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقال مجاهد كان الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ الله تعالى من ذلك ما أحب فجعل للولد الذكر مثل حظ الأنثيين وجعل لكل واحد من الأبوين السدس مع الولد قال ابن عباس وقد كان الرجل إذا مات وخلف زوجته اعتدت سنة كاملة في بيته ينفق عليها من تركته وهو قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ثم نسخ ذلك بالربع أو الثمن وقوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض نسخ به التوارث بالحلف وبالهجرة وبالتبني على النحو الذي بينا وكذلك قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم هي آية محكمة غير منسوخة وهي موجبة لنسخ الميراث بهذه الأسباب التي ذكرنا لأنه جعل الميراث للمسلمين فيها فلا يبقى لأهل هذه الأسباب شيء وذلك موجب لسقوط حقوقهم في هذه الحال وروى محمد بن عبدالله بن عقيل عن جابر ابن عبدالله قال جاءت امرأة من الأنصار ببنتين لها فقالت يا رسول الله هاتان بنتا ثابت ابن قيس قتل معك يوم أحد ولم يدع لهما عمهما مالا إلا أخذه فما ترى يا رسول الله فوالله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال فقال رسول الله ص - يقضي الله في ذلك فنزلت سورة النساء يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين الآية فقال ص - ادع إلى المرأة وصاحبها فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك .
قال أبو بكر قد حوى هذا الخبر معاني منها أن العم قد كان يستحق الميراث دون البنتين على عادة أهل الجاهلية في توريث المقاتلة دون النساء والصبيان ولم ينكر النبي ص - ذلك حين سألته المرأة بل أقر الأمر على ما كان عليه وقال لها يقضي الله في ذلك ثم لما نزلت الآية أمر العم بدفع نصيب البنتين والمرأة إليهن وهذا يدل على أن العم لم يأخذ الميراث بديا من جهة التوقيف بل على عادة أهل الجاهلية في المواريث لأنه لو كان كذلك لكان إنما يستأنف فيما يحدث بعد نزول الآية وما قد مضى على حكم منصوص متقدم لا يعترض عليه بالنسخ فدل على أنه أخذه على حكم الجاهلية التي لم ينقلوا عنها وروى سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال مرضت فأتى رسول الله ص - يعودني فأتاني وقد أغمى على فتوضأ رسول الله ص - ثم رش علي من وضوئه فأفقت فقلت يا رسول الله كيف تقضي في مالي فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية المواريث يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين قال أبو بكر ذكر في الحديث الأول قصة المرأة مع بنتيها وذكر في هذا الحديث أن جابرا سأله عن ذلك وجائز أن يكون الأمران جميعا قد كانا سألته المرأة فلم يجبها منتظرا للوحي ثم سأله جابر في حال مرضه فنزلت الآية وهي ثابتة الحكم مثبتة للنصيب المفروض في قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية .
ولم يختلف أهل العلم في أن المراد بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم أولاد الصلب وإن ولد الولد غير داخل مع ولد الصلب وأنه إذا لم يكن ولد الصلب فالمراد أولاد البنين دون أولاد البنات فقد انتظم اللفظ أولاد الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد الصلب وهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى لولد فلان أنه لولده لصلبه فإن لم يكن له ولد لصلبه فهو لولد ابنه .
وقوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قد أفاد أنه إن كان ذكرا أو أنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم وأفاد أيضا أنهم إذا كانوا جماعة ذكورا وإناثا أن لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهما وأفاد أيضا أنه إذا كان مع الأولاد ذوو سهام نحو الأبوين والزوج والزوجة أنهم متى أخذوا سهامهم كان الباقي بعد السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك لأن قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين اسم للجنس يشتمل على القليل والكثير منهم فمتى ما أخذ ذوو السهام سهامهم كان الباقي بينهم على ما كانوا يستحقونه لو لم يكن ذو سهم .
وقوله D فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف فنص على نصيب ما فوق الابنتين وعلى الواحدة ولم ينص على فرض الابنتين لأن في فحوى الآية دلالة على بيان فرضهما وذلك لأنه قد أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث وإذا كان لها مع الذكر الثلث كانت بأخذ الثلث مع الأنثى أولى وقد احتجنا إلى بيان حكم ما فوقهما فلذلك نص على حكمه وأيضا لما قال الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين فلو ترك ابنا وبنتا كان للابن سهمان ثلثا المال وهو حظ الأنثيين فدل ذلك على أن نصيب الابنتين الثلثان لأن الله تعالى جعل نصيب الابن مثل نصيب البنتين وهو الثلثان ويدل على أن للبنتين الثلثين أن الله تعالى أجرى الأخوة والأخوات مجرى البنات وأجرى الأخت الواحدة مجرى البنت الواحدة فقال تعالى إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ثم قال فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فجعل حظ الأختين كحظ ما فوقهما وهو الثلثان كما جعل حظ الأخت كحظ البنت وأوجب لهم إذا كانوا ذكورا وإناثا للذكر مثل حظ الأنثيين وأوجب أن تكون الابنتان كالأختين في استحقاق الثلثين لمساواتهما لهما في إيجاب المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم يكن غيرهم كما في مساواة الأخت للبنت إذا لم يكن غيرهم في استحقاق النصف بالتسمية وأيضا البنتان أولى بذلك إذ كانتا أقرب إلى الميت من الأختين وإذا كانت الأخت بمنزلة البنت فكذلك البنتان في استحقاق الثلثين ويدل على ذلك حديث جابر في قصة المرأة التي أعطى النبي ص - فيها البنتين الثلثين والمرأة الثمن والعم ما بقي .
ولم يخالف في ذلك أحد إلا شيئا روي عن ابن عباس أنه جعل للبنتين النصف كنصيب الواحدة واحتج بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وليس في ذلك دليل على أن للابنتين النصف وإنما فيه نص على أن ما فوق الابنتين فلهنالثلثان فإن كان القائل بأن للابنتين الثلثين مخالفا للآية فإن الله تعالى قد جعل للابنة النصف إذا كانت وحدها وأنت جعلت للابنتين النصف وذلك خلاف الآية فإن لم تلزمه مخالفة الآية حين جعل للابنتين النصف وإن كان الله قد جعل للواحدة النصف فكذلك لا تلزم مخالفيه مخالفة الآية في جعلهم للابنتين الثلثين لأن الله تعالى لم ينف بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك أن يكون للابنتين الثلثان وإنما نص على حكم ما فوقهما وقد دل على حكمهما في فحوى الآية على النحو الذي بينا وما ذكرناه من دلالة حكم الأختين على حكم الابنتين على ما ذكرنا وقد قيل إن قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين أن ذكر فوق ههنا صلة للكلام كقوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق قوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد يوجب ظاهره أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد ذكرا كان الولد أو أنثى لأن اسم الولد ينتظمهما إلا أنه لا خلاف إذا كان الولد بنتا لا تستحق أكثر من النصف لقوله تعالى وإن كانت واحدة فلها النصف فوجب أن تعطى النصف بحكم النص ويكون للأبوين لكل واحد السدس بنص التنزيل ويبقى السدس يستحقه الأب بالتعصيب فاجتمع ههنا للأب الاستحقاق بالتسمية وبالتعصيب جميعا وإن كان الولد ذكرا فللأبوين السدسان بحكم النص والباقي للإبن لأنه أقرب تعصيبا من الأب .
وقال تعالى فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فأثبت الميراث للأبوين بعموم اللفظ ثم فصل نصيب الأم وبين مقداره بقوله فلأمه الثلث ولم يذكر نصيب الأب فاقتضى ظاهر اللفظ للأب الثلثين إذ ليس هناك مستحق غيره وقد أثبت الميراث لهما بديا وقد كان ظاهر اللفظ يقتضي المساواة لو اقتصر على قوله تعالى وورثه أبواه دون تفصيل نصيب الأم فلما قصر نصيب الأم على الثلث علم أن المستحق للأب الثلثان قوله تعالى فإن كان له أخوة فلأمه السدس قال علي وعبدالله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وسائر أهل العلم إذا ترك أخوين وأبوين فلأمه السدس وما بقي فلأبيه وحجبوا الأم عن الثلث إلى السدس كحجبهم لها بثلاثة أخوة وقال ابن عباس للأم الثلث وكان لا يحجبها إلا بثلاثة من الأخوة والأخوات وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس إذا ترك أبوين وثلاثة أخوة فللأم السدس وللإخوة السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب وروي عنه أنه إن كان الأخوة من قبل الأم فالسدس لهم خاصة وإن كانوا من قبل الأب والأم أو من قبل الأب لم يكن لهم شيء وكان ما بعد السدس للأب والحجة للقول الأول أن اسم الأخوة قد يقع على الإثنين كما قال تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وهما قلبان وقال تعالى وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ثم قال تعالى خصمان بغى بعضنا على بعض فأطلق لفظ الجمع على اثنين وقال تعالى وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فلو كان أخا وأختا كان حكم الآية جاريا فيهما وقد روى عن النبي ص - أنه قال اثنان فما فوقهما جماعة ولأن الاثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع أقرب منهما إلى الواحد لأن لفظ الجمع موجود فيهما نحو قولك قاما وقعدا وقاموا وقعدوا كل ذلك جائز في الاثنين والثلاثة ولا يجوز مثله في الواحد فلما كان الاثنان في حكم اللفظ أقرب إلى الثلاثة منهما إلى الواحد وجب إلحاقهما بالثلاثة دون الواحد وقد روى عبدالرحمن بن أبي الزيناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول فإن كان له أخوة وأنت تحجبها بالأخوين فقال إن العرب تسمي الأخوين أخوة فإذا كان زيد بن ثابت قد حكى عن العرب أنها تسمي الأخوين أخوة فقد ثبت أن ذلك اسم لهما فيتناولهما اللفظ وأيضا قد ثبت أن حكم الأختين حكم الثلاث في استحقاق الثلثين بنض التنزيل في قوله تعالى وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وكذلك حكم الأختين من الأم حكم الثلاث في استحقاق الثلث دون حكم الواحدة فوجب أن يكون حكمهما حكم الثلاث في حجب الأم عن الثلث إلى السدس إذ كان حكم كل واحد من ذلك حكما متعلقا بالجمع فاستوى فيه حكم الاثنين والثلاث وروي عن قتادة أنه قال إنما يحجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب لأنه يقوم بنكاحهم والنفقة عليهم دون الأم وهذه العلة إنما هي مقصورة على الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأب فأما الإخوة من الأم فليس إلى الأب شيء من أمرهم وهم يحجبون أيضا كما يحجب الإخوة من الأب والأم ولا خلاف بين الصحابة في ثلاثة إخوة وأبوين أن للأم السدس وما بقي فللأب إلا شيئا يروى عن ابن عباس وروى عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس ان للأم السدس وللإخوة السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب وكان لا يحجب بمن لا يرث فلما حجب الأم بالإخوة ورثهم وهو قول شاذ وظاهر القرآن خلافه لأنه تعالى قال وورثه أبواه فلأمه الثلث ثم قال تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس عطفا على قوله تعالى وورثه أبواه تقديره وورثه أبواه وله أخوة وذلك يمنع أن يكون للإخوة شيء .
قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين الدين مؤخر في اللفظ وهو مبتدأ به في المعنى على الوصية لأنها أولا توجب الترتيب وإنما هي لأحد شيئين فكأنه قيل من بعد أحد هذين وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال ذكر الله الوصية قبل الدين وهي بعده يعني أنها مقدمة في اللفظ مؤخرة في المعنى قوله تعالى ولكم نصف ما ترك ازواجكم الآية هذا نص متفق على تأويله كاتفاقهم تنزيله وأن الولد الذكر والأنثى في ذلك سواء يحجب الزوج عن النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن إذا كان الولد من أهل الميراث ولم يختلفوا أيضا أن ولد الابن بمنزلة ولد الصلب في حجب الزوج والمرأة عن النصيب الأكثر إلى الأقل إذا لم يكن ولد الصلب .
قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله قيل إن معناه لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعا في الدين والدنيا والله يعلمه فاقسموه على ما بينه إذ هو عالم بالمصالح وقيل إن معناه أباؤكم وأبناؤهم متقاربون في النفع حتى لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا إذ كنتم تنتفعون بآبائكم في حال الصغر وتنتفعون بأبنائكم عند الكبر ففرض ذلك في أموالكم للآباء والأبناء علما منه بمصالح الجميع وقيل لا يدري أحدكم أهو أقرب وفاة فينتفع ولده بماله أم الولد أقرب وفاة فينتفع الأب والأم بماله ففرض في مواريثكم ما فرض علما منه وحكما وقد اختلف السلف في الحجب بمن لا يرث وهو أن يخلف الحر المسلم أبوين حرين مسلمين وأخوين كافرين أو مملوكين أو قاتلين فقال علي وعمر وزيد للأم الثلث وما بقي فللأب وكذلك المسلمة إذا تركت زواجا وابنا كافرا أو مملوكا أو قاتلا أو الرجل ترك امرأة وابنا كذلك أنهم لا يحجبون الزوج ولا المرأة عن نصيبهما الأكثر إلى الأقل وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ومالك والثوري والشافعي وقال عبدالله بن مسعود يحجيون وإن لم يرثوا وقال الأوزاعي والحسن بن صالح المملوك والكافر لا يرثان ولا يحجبان والقاتل يرث ويحجب .
قال أبو بكر لا خلاف أن الأب الكافر لا يحجب ابنه من ميراث جده وأنه يمنزلة الميت فكذلك في حكم حجب الأم والزوج والزوجة واحتج من حجب بظاهر قوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ولم يفرق بين الكافر والمسلم فيقال له فلم حجبت به الأم دون الأب والله تعالى إنما حجبهما جميعا بالولد بقوله تعالى لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن جاز أن لا يحجب الأب وجعلت قوله تعالى إن كان له ولد على ولد يجوز الميراث فكذلك حكمه في الأم .
قوله تعالى ولهن الربع مما تركتم إلى قوله تعالى فلهن الثمن مما تركتم قد دل على أنهن إذا كن أربعا يشتركن في الثمن وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم .
وقد اختلف السلف في ميراث الأبوين مع الزوج والزوجة فقال على وعمر وعبدالله بن مسعود وعثمان وزيد للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب وقال ابن عباس للزوج والزوجة ميراثهما وللأم الثلث كاملا وما بقي فللأب وقال لا أجد في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي وعن ابن سيرين مثل قول ابن عباس وروي انه تابعه في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين لتفضيله الأم على الأب والصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأنصار على القول الأول إلا ما حكينا عن ابن عباس وابن سيرين وظاهر القرآن يدل عليه لأنه قال فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فجعل الميراث بينهما أثلاثا كما جعله أثلاثا بين الابن والبنت في قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين وجعله بين الأخ والأخت أثلاثا بقوله تعالى وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ثم لما سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما وأخذا نصيبهما كان الباقي بين الابن والبنتين على ما كان قبل دخولهما وكذلك بين الأخ والأخت وجب أن يكون أخذ الزوج والزوجة نصيبهما موجبا للباقي بين الأبوين على ما استحقاه أثلاثا قبل دخولهما وأيضا هما كشريكين بينهما مال إذا استحق منه شيء كان الباقي بينهما على ما استحقاه بديا والله أعلم بالصواب .